فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وتعدية {بعثنا} بحرف الاستعلاء لتضمينه معنى التسليط كقوله: {ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب} [الأعراف: 167].
والعِباد: المملوكون، وهؤلاء عباد مخلوقية، وأكثر ما يقال: عباد الله.
ويقال: عَبيد، بدون إضافة، نحو {وما ربك بظلام للعبيد} [فصلت: 46]، فإذا قصد المملوكون بالرق قيل: عَبيد، لا غير.
والمقصود بعباد الله هنا الأشوريون أهل بابل وهم جنود بختنصر.
والبأس: الشوكة والشدة في الحرب.
ووصفه بالشديد لقوته في نوعه كما في آية سورة سليمان [النمل: 33]: {قالوا نحن أولوا قوة وأولوا بأس شديد} وجملة {فجاسوا} عطف على {بعثنا} فهو من المقضي في الكتاب.
والجوس: التخلل في البلاد وطرقها ذهابًا وإيابًا لتتبع ما فيها.
وأريد به هنا تتبّع المقاتلة فهو جوس مضرة وإساءة بقرينة السياق.
و{خلال} اسم جاء على وزن الجموع ولا مفرد له، وهو وسط الشيء الذي يتخلل منه.
قال تعالى: {فترى الودق يخرج من خلاله} [الروم: 48].
والتعريف في {الديار} تعريف العهد، أي دياركم، وذلك أصل جعل (ال) عوضًا عن المضاف إليه.
وهي ديار بلد أورشليم فقد دخلها جيش بختنصر وقتل الرجال وسبى، وهدم الديار، وأحرق المدينة وهيكل سليمان بالنار. ولفظ {الديار} يشمل هيكل سليمان لأنه بيت عبادتهم، وأسر كل بني إسرائيل وبذلك خلت بلاد اليهود منهم.
ويدل لذلك قوله في الآية الآتية: {وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة}.
{ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6)}
عطف جملة {فجاسوا} [الإسراء: 5] فهو من تمام جواب {إذَا} من قوله: {فإذا جاء وعد أولاهما} [الإسراء: 5]، ومن بقية المقضي في الكتاب، وهو ماض لفظًا مستقبل معنًى، لأن {إذا} ظرف لِما يستقبل. وجيء به في صيغة الماضي لتحقيق وقوع ذلك.
والمعنى: نبعث عليكم عبادًا لنا فيجوسون ونرد لكم الكرة عليهم ونمددكم بأموال وبنين ونجعلكم أكثر نفيرًا. و{ثم} تفيد التراخي الرتبي والتراخي الزمني معًا. والردّ: الإرجاع. وجيء بفعل {رددنا} ماضيًا جَريًا على الغالب في جواب {إذا} كما جاء شرطها فعلًا ماضيًا في قوله: {فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا} [الإسراء: 5] أي إذا يجيء يبعث. والكرة: الرجعة إلى المكان الذي ذهب منه.
فقوله: {عليهم} ظرف مستقر هو حال من {الكرة}، لأن رجوع بني إسرائيل إلى أورشليم كان بتغلب ملك فارس على ملك بابل.
وذلك أن بني إسرائيل بعد أن قضوا نيفًا وأربعين سنة في أسر البابليين وتابوا إلى الله وندموا على ما فرط منهم سَلط الله ملوكَ فارس على ملوك بابل الأشوريين؛ فإن الملك كُورش ملك فارس حارب البابليين وهزمهم فضعُف سلطانهم، ثم نزل بهم دَاريوس ملك فارس وفتح بابل سنة 538 قبل المسيح، وأذن لليهود في سنة 530 قبل المسيح أن يرجعوا إلى أورشليم ويجددوا دولتهم. وذلك نصر انتصروه على البابليين إذ كانوا أعوانًا للفرس عليهم. والوعد بهذا النصر ورد أيضًا في كتاب أشعياء في الإصحاحات: العاشر، والحادي عشر، والثاني عشر، وغيرها، وفي كتاب أرميا في الإصحاح الثامن والعشرين والإصحاح التاسع والعشرين.
وقوله: {وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرًا} هو من جملة المقضي الموعود به.
ووقع في الإصحاح التاسع والعشرين من كتاب أرميا هكذا قال الرب إلهُ إسرائيل لكل السبي الذي سبيتهُ من أورشليم إلى بابل: ابنوا بيوتًا واسكنوا، واغرسوا جنات، وكلوا ثمرها، خُذوا نساء ولِدُوا بنين وبناتتٍ، واكثروا هناك ولا تقِلُّوا.
و{نفيرًا} تمييز لأكثر فهو تبيين لجهة الأكثرية، والنفير.
اسم جمع للجماعة التي تنفر مع المرء من قومه وعشيرته، ومنه قول أبي جهل: لا في العير ولا في النفير.
والتفضيل في {أكثر} تفضيل على أنفسهم، أي جعلناكم أكثر مما كنتم قبل الجَلاء، وهو المناسب لمقام الامتنان. وقال جمع من المفسرين: أكثرَ نفيرًا من أعدائكم الذين أخرجوكم من دياركم، أي أفنى معظم البابليين في الحروب مع الفرس حتى صار عدد بني إسرائيل في بلاد الأسر أكثر من عدد البابليين. اهـ.

.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {وَقَضَيْنَآ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ} الآية.
أظهر الأقوال فيه: أنه بمعنى أخبرناهم وأعلمناهم.
ومن معاني القضاء: الأخبار والإعلام. ونظير ذلك في القرآن في قوله تعالى: {وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمر أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ} [الحجر: 66] والظّاهر أن تعديه بـ {إلى} لنه مضمن معنى الإيحاء. وقيل: مضمن معنى: تقدمنا إليهم فأخبرناهم. قال معناه ابن كثير. والعلم عند الله تعالى. اهـ.

.قال الشعراوي:

قوله تعالى: {وَقَضَيْنَآ..} [الإسراء: 4].
أي: حكمنا حُكْمًا لا رجعةَ فيه، وأعلنَّا به المحكوم عليه، والقاضي الذي حكم هنا هو الحق سبحانه وتعالى. والقضاء يعني الفَصْل في نزاع بين متخاصمين، وهذا الفَصْل لابد له من قاضٍ مُؤهَّل، وعلى علم بالقانون الذي يحكم به، ويستطيع الترجيح بين الأدلة.
إذن: لابد أن يكون القاضي مُؤهّلًا، ولو عُرْف المتنازعين، ويمكن أن يكونوا جميعًا أميِّين لا يعرفون عن القانون شيئًا، ولكنهم واثقون من شخص ما، ويعرفون عنه قَوْل الحق والعدل في حكومته، فيرتضونه قاضيًا ويُحكّمونه فيما بينهم.
ثم إن القاضي لا يحكم بعلمه فحسب، بل لابد له من بينة على المدعي أن يُقدّمها أو اليمين على مَنْ أنكر، والبينة تحتاج إلى سماع الشهود، ثم هو بعد أن يحكم في القضية لا يملك تنفيذ حكمه، بل هناك جهة أخرى تقوم بتنفيذ حكمه، ثم هو في أثناء ذلك عُرْضة للخداع والتدليس وشهادة الزور وتلاعب الخصوم بالأقوال والأدلة.
وقد يستطيع الظالم أنْ يُعمِّي عليه الأمر، وقد يكون لبقًا متكلمًا يستميل القاضي، فيحوّل الحكم لصالحه، كل هذا يحدث في قضاء الدنيا.
فما بالك إذا كان القاضي هو رب العزة سبحانه وتعالى؟
إنه سبحانه وتعالى القاضي العدل الذي لا يحتاج إلى بيّنة ولا شهود، ولا يقدر أحد أنْ يُعمِّي عليه أو يخدعه، وهو سبحانه صاحب كل السلطات، فلا يحتاج إلى قوة أخرى تنفذ ما حكم به، فكل حيثيات الأمور موكولة إليه سبحانه.
وقد حدث هذا فعلًا في قضاء قضاه النبي صلى الله عليه وسلم، وهل القضاة أفضل من رسول الله؟! ففي الحديث الشريف: «إنما أنا بشر مثلكم، وإنكم تختصمون إليَّ، ولعل أحدكم أن يكون ألحنَ بحجته فأقضي له، فمَنْ قضيت له من حق أخيه شيئًا، فلا يأخذه؛ فإنما أقطع له قطعة من النار».
فردَّ صلى الله عليه وسلم الحكم إلى ذات المحكوم له، ونصحه أنْ يراجعَ نفسه وينظر فيما يستحق، فالرسول صلى الله عليه وسلم بشر يقضي كما يقضي البشر، ولكن إنْ عمَّيْتَ على قضاء الأرض فلن تُعمِّي على قضاء السماء.
ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم فيمَنْ يستفتي شخصًا فيفتيه فتوى تخالف الحق وتجانب الصواب: «استفتِ قلبك، وإنْ أفتوْكَ، وإنْ أفتوْكَ، وإنْ أفتوْكَ».
قالها ثلاثًا ليلفتنا إلى ضرورة أن يكون الإنسان واعيًا مُميّزًا بقلبه بين الحلال والحرام، وعليه أن يُراجع نفسه ويتدبر أمره.
وقوله: {فِي الْكِتَابِ..} [الإسراء: 4].
أي: في التوراة، كتابهم الذي نزل على نبيهم، وهم محتفظون به وليس في كتاب آخر، فالحق سبحانه قضى عليهم. أي: حكم عليهم حُكْمًا وأعلمهم به، حيث أوحاه إلى موسى، فبلّغهم به في التوراة، وأخبرهم بما سيكون منهم من ملابسات استقبال منهج الله على ألسنة الرسل، أَيُنفذونه وينصاعون له، أم يخرجون عنه ويفسدون في الأرض؟
إذا كان رسولهم- عليه السلام- قد أخبرهم بما سيحدث منهم، وقد حدث منهم فعلًا ما أخبرهم به الرسول وهم مختارون، فكان عليهم أنْ يخجلوا من ربهم عز وجل، ولا يتمادوا في تصادمهم بمنهج الله وخروجهم عن تعاليمه، وكان عليهم أن يصدقوا رسولهم فيما أخبرهم به، وأنْ يُطيعوا أمره.
وقوله تعالى: {لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ..} [الإسراء: 4].
جاءتْ هذه العبارة هكذا مُؤكّدة باللام، وهذا يعني أن في الآية قَسَمًا دَلَّ عليه جوابه، فكأن الحق سبحانه يقول: ونفسي لتفسدن في الأرض، لأن القسَم لا يكون إلا بالله.
أو نقول: إن المعنى: ما دُمْنا قد قضينا وحكمنا حُكْمًا مُؤكّدًا، لا يستطيع أحد الفِكَاك منه، ففي هذا معنى القسَم، وتكون هذه العبارة جوابًا ل {قضينا}؛ لأن القسَم يجيء للتأكيد، والتأكيد حاصل في قوله تعالى: {وَقَضَيْنَآ...} [الإسراء: 4].
فما هو الإفساد؟
الإفساد: أن تعمد إلى الصالح في ذاته فتُخرجه عن صلاحه، فكُلُّ شيء في الكون خلقه الله تعالى لغاية، فإذا تركتَه ليؤديَ غايته فقد أبقيته على صلاحه، وإذا أخللْتَ به يفقد صلاحه ومهمته، والغاية التي خلقه الله من أجلها.
والحق سبحانه وتعالى قبل أنْ يخلقنا على هذه الأرض خلق لنا مُقوّمات حياتنا في السماء والأرض والشمس والهواء.. إلخ وليس مقومات حياتنا فحسب، بل وأعدَّ لنا في كَوْنه ما يُمكِّن الإنسان بعقله وطاقته أن يَزيدَ الصالح صلاحًا، فعلى الأقل إنْ لم تستطع أن تزيد الصالح صلاحًا فأبْقِ الصالح على صلاحه.
فمثلًا، عندك بئر محفورة تخرج لك الماء، فإما أنْ تحتفِظَ بها على حالها فلا تطمسها، وإما أنْ تزيدَ في صلاحها بأنْ تبنيَ حولها ما يحميها من زحف الرمال، أو تجعل فيها آلة رفع للماء تضخُّه في مواسير لتسهِّل على الناس استعمال، وغير ذلك من أَوْجُه الصلاح.
ولذلك الحق سبحانه وتعالى يقول: {هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61].
أي: أنشأكم من الأرض، وجعل لكم فيها مُقوّمات حياتكم، فإنْ أحببتَ أنْ تُثري حياتك فأعمِلْ عقلك المخلوق لله ليفكر، والطاقة المخلوقة في أجهزتك لتعمل في المادة المخلوقة لله في الكون، فأنت لا تأتي بشيء من عندك، فقط تُعمِل عقلك وتستغل الطاقة المخلوقة لله، وتتفاعل مع الأرض المخلوقة لله، فتعطيك كل ما تتطلع إليه وكل ما يُثرِي حياتك، ويُوفِّر لك الرفاهية والترقي.
فالذين اخترعوا لنا صهاريج المياه أعملُوا عقولهم، وزادوا الصالح صلاحًا، وكم فيها من مَيْزات وفَّرت علينا عناء رفع المياه إلى الأدوار العليا، وقد استنبط هؤلاء فكرة الصهاريج من ظواهر الكون، حينما رأوا السيل ينحدر من أعلى الجبال إلى أسفل الوديان، فأخذوا هذه الفكرة، وأفلحوا في عمل يخدم البشرية.
وكما يكون الإفساد في الماديات كمَنْ أفسدوا علينا الماء والهواء بالملوِّثات، كذلك يكون في المعنويات، فالمنهج الإلهي الذي أنزله الله تعالى لهداية الخلق وألزمنا بتنفيذه، فكوْنُك لا تنفذ هذا المنهج، أو تكتمه، أو تُحرِّف فيه، فهذا كله إفساد لمنهج الله تعالى.
ويقول تعالى لبني إسرائيل:
{لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ..} [الإسراء: 4].
وهل أفسد بنو إسرائيل في الأرض مرتين فقط؟
والله إنْ كانوا كذلك فقد خلاهم ذم، والأمر إذن هَيِّن، لكنهم أفسدوا في الأرض إفسادًا كثيرًا متعددًا، فلماذا قال تعالى: مرتين؟
تحدّث العلماء كثيرًا عن هاتين المرتين، وفي أيّ فترات التاريخ حدثتا، وذهبوا إلى أنهما قبل الإسلام، والمتأمل لسورة الإسراء يجدها قد ربطتهم بالإسلام، فيبدو أن المراد بالمرتين أحداثٌ حدثتْ منهم في حضْن الإسلام.
فالحق سبحانه وتعالى بعد أن ذكر الإسراء ذكر قصة بني إسرائيل، فدلّ ذلك على أن الإسلام تعدّى إلى مناطق مُقدّساتهم، فأصبح بيت المقدس قِبْلة للمسلمين، ثم أُسْرِي برسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، وبذلك دخل في حَوْزة الإسلام؛ لأنه جاء مهيمنًا على الأديان السابقة، وجاء للناس كافة.
إذن: كان من الأوْلى أن يُفسِّروا هاتين المرتين على أنهما في حضن الإسلام؛ لأنهم أفسدوا كثيرًا قبل الإسلام، ولا دَخْلَ للإسلام في إفسادهم السابق؛ لأن الحق سبحانه يقول:{وَقَضَيْنَآ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} [الإسراء: 4].
فإنْ كان الفساد مُطْلقًا. أي: قبل أن يأتي الإسلام فقد تعدَّد فسادهم، وهل هناك أكثر من قولهم بعد أن جاوز بهم البحر فرأوا جماعة يعكفون على عبادة العجل، فقالوا لموسى- عليه السلام: {اجْعَلْ لَّنَآ إِلَاهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138].
هل هناك فساد أكثر من أنْ قتلوا الأنبياء الذين جعلهم الله مُثُلًا تكوينية وأُسْوة سلوكية، وحرّفوا كتاب الله؟
والناظر في تحريف بني إسرائيل للتوراة يجد أنهم حرَّفوها من وجوه كثيرة وتحريفات متعددة، فمن التوراة ما نسوه، كما قال تعالى: {وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ..} [المائدة: 13].